في محاولة لفهم خبايا الأزمة الخطيرة التي تهز العلاقات الفرنسية المغربية لعدة أشهر، انخرطت يومية “لوموند” الباريسية، بشكل واضح، فيما يمكن اعتباره “تحليلا نفسيا”.
فقد خصصت “لوموند”، يوم الأربعاء 4 أكتوبر 2003، صفحتين وافتتاحية للتوترات بين البلدين. “لم يعد الوقت المناسب للاعتراف بخيبة الأمل، التي تم التعبير عنها عدة مرات خلال العامين الماضيين أو نحو ذلك. وهنا تطرح علامات استفهام مقلقة، في الرباط كما في باريس: إلى أي مدى يمكن أن يصل هذا الأمر؟”، تتساءل الصحيفة الفرنسية، قبل أن تعود إلى الزلزال الذي ضرب الأطلس الكبير في 8 شتنبر الماضي، والذي كان من المفترض منطقيا أن يهدئ العقول. “لكن العكس هو الذي حدث: لقد تفاقم الشِقاق”.
بل إن مناظرات تلفزيونية فرنسية جرت بعناوين غريبة، مثل “هل يستطيع المغرب أن يتدبر أمره دون مساعدة فرنسا؟”، زادت من صب الزيت على النار في المملكة، وبالتالي “كانت صادمة بالتأكيد”، يقول فريديريك بوبين، المبعوث الخاص لـ”لوموند” بالرباط.
الرباط ترد: “العين والعين”
“من كان يتخيل أن كارثة طبيعية يمكن أن تزيد من الانزلاقات بهذه القسوة؟ هل كان من الضروري أن تصبح العلاقة الفرنسية المغربية مادة قابلة للاشتعال؟ فهل تم تقويض المجالات الثنائية إلى الحد الذي يفجر كل لفتة رسمية أو كل مقال صحافي حابِلين بالشبهات أو مُصابَيْن بجنون العظمة، في الرباط، دورة جديدة من الخلافات كما هو الحال في دوامة جهنمية؟”، يتساءل فريديريك بوبين.
ومما زاد الطين بلة، أن اختيار إيمانويل ماكرون مخاطبة المغاربة، بشكل مباشر، أثار غضبهم. ووصف الصحافي الفرنسي رسالة ماكرون المصورة بـ”الخرقاء”، واعْتُبرت في الرباط “انتهاكا للممارسات البروتوكولية، وتحديا للملك”، كما جاء في صحف مغربية. بل أن الإعلام المغربي أصبح تنهج أسلوبا هجوميا مضادا لكل ما ينتجه الإعلام الفرنسي حول المملكة أو الملك. مثلا، ردا على المقالات المخصصة للملك محمد السادس في الصحافة الفرنسية، كالتي نشرتها إحدى الأسبوعيات بعنوان “محمد السادس، حياته الخفية في فرنسا”، تم إطلاق العنان لبعض المواقع الإلكترونية، التي يتم تقديمها على أنها قريبة من السلطات المغربية العليا، لمهاجمة إيمانويل ماكرون شخصيا. لم تعد الرباط تستسلم وترد الضربة على الضربة. “العين بالعين، والسن بالسن”، تقول الصحيفة الباريسية المحسوبة على يمين الوسط.
في هذه الظروف، فإن القول بأن “الأزمة عميقة هو قول بخس… بل إن درجات الحرارة أصبحت قطبية بالفعل. إذ لم يعد للمغرب سفير في باريس منذ 19 يناير 2023. التاريخ لا يدين بأي شيء للصدفة. ففي ذلك اليوم (19 يناير)، تبنى البرلمان الأوربي قرارا ينتقد المساس بحرية الصحافة في المغرب. كان السياق معاكسا للمملكة الشريفة، حيث كانت “قطر-غيت” تختمر في بروكسل لعدة أسابيع، وارتبطت على الفور بـ”ماروك-غيت” على خلفية فضائح الفساد التي تورط فيها أعضاء في البرلمان الأوربي، وكشفت الجانب المظلم لاستراتيجيات النفوذ في الدولتين”، تقول “لوموند”.
واعتبرت الرباط أن مسألة القرار الأوربي “بمثابة ضربة تحت الحزام من باريس، لأن النص تم نقله، عبر مجموعات برلمانية، من بيها المجموعة التي يرأسها ستيفان سيجورني، المقربة من حزب إيمانويل ماكرون. في نظر المغاربة، كان السبب مفهوما: الإليزي يتآمر بالفعل ضد بلدهم. والنتيجة أن الاتصالات الرسمية أصبحت نادرة، إن لم يكن ممكنا القول إنها منقطعة”، تضيف الصحيفة الباريسية، موضحة أنه بالإضافة إلى رفض تعيين سفير مغربي جديد في باريس، هناك المعاملة المخصصة للسفير الفرنسي بالرباط، كريستوف لوكوتيي، الذي لاقت يتعرض لمقاطعة من قبل سلطات البلد المضيف.
“غير أن الأجواء هدأت هذا الصيف بعد اتصال هاتفي، في 21 غشت، بين محمد السادس وإيمانويل ماكرون. وبدا أن الخلاف قد بدأ في الذوبان، خاصة وأن الجمود في العلاقات مع الجزائر، دفع بعض مستشاري الرئيس الفرنسي إلى التعبير عن رغبتهم في مضاعفة الجهود تجاه المغرب من أجل تجنب خسارة الجانبين. لكن الانتكاسة، التي عجلت بها الجدل الذي أحاط بزلزال الأطلس الكبير، أصبحت أكثر حدة”.
مغرب مختلف “نفسيا” تماما
اليوم “يبدو أن هناك محطتين فاصلتين، إحداهما تغذي الأخرى، مما يجعل مغرب 2023 مختلفا تماما عن ذلك الذي كان على فرنسا أن تواجهه حتى قبل عقد من الزمن”، حسبما تعتقد “لوموند”، مشيرة إلى أن “المحطة الأولى ذات طبيعة استراتيجية، تجد أصلها في تشدد موقف الرباط منذ اتفاق دونالد ترامب في دجنبر 2020، والذي اعترفت فيه واشنطن بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية مقابل التطبيع الدبلوماسي بين المغرب وإسرائيل. وبفضل الموقف الأمريكي هذا، تشجع المغرب ــ إلى حد التجرء في بعض الأحيان ــ على رفع مستوى رهانه في مواجهة شركائه الآخرين بشأن القضية الصحراوية. وهؤلاء الشركاء، من بينهم فرنسا في المقدمة، مدعوون إلى الاعتراف رسميا بسيادة المغرب على الأراضي المتنازع عليها منذ عام 1975 مع جبهة البوليساريو الانفصالية التي تحظى بدعم من الجزائر… إن عدم مرونة المغرب بشأن هذه القضية، يتغذى من التمثيل الجديد لنفسه، أي تمثيل قوة إقليمية صاعدة، مع دبلوماسية غير مقيدة”، وفق تحليل فريديريك بوبين.
بينما ترتبط المحطة الثانية بـ”أزمة التأشيرات، التي استمرت لأكثر من عام. ففي شتنبر 2021، أعلنت الحكومة الفرنسية عن تخفيض جذري في منح التأشيرات لمواطني الدول المغاربية… وإذا كانت هذه العقوبة قد نُظِر إليها في المغرب على أنها إذلال حقيقي -وهو تعبير يردد على لسان الجميع-، فذلك لأن نخبه كانت الأكثر ارتباطا مع النسيج الاجتماعي والمهني والثقافي لفرنسا. ويبدو أن عصر حرية التنقل النسبية بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط – حيث بلغ معدل الرفض 18٪ فقط لطالبي التأشيرة المغاربة في عام 2019 – قد انتهى. لقد كانت خيبة الأمل مفجعة بالنسبة لهذه النخبة الناطقة بالفرنسية والمُحبة للفرانكوفونية، والتي تم التعامل معها فجأة على أنها تهديد، وبدأت بعد ذلك تحلم بآفاق بديلة، وخاصة الأنجلوساكسونية. “إن المفارقة الكبرى هي هذا الاستياء من فرنسا، الذي كان يقتصر تقليديا على التيارات الإسلامية والقومية، كونه امتد فجأة إلى الأشخاص أنفسهم الذين كانوا أفضل وسيلة لثقافتها في المغرب”، تعترف صحيفة “لوموند” بخيبة أمل بعض الشيء، قبل أن تشير إلى أن هذا الشعور المغربي المتزايد للوقوف ندا للند مع أي كان “مرتبط بتصاعد النزعة الوطنية غير المقيدة، والتي تتجلى الآن في جميع المناسبات: النقاش حول مغربية الصحراء الغربية، وإنجازات المنتخب الوطني لكرة القدم خلال مونديال قطر 2022، ومؤخرا، زلزال الأطلس الكبير الذي عرف هبة استثنائية في التضامن بين السكان”.
الملك خط أحمر بالنسبة للمغاربة
لدعم تحليله، يستدعي مراسل “لوموند” المحلل النفسي في الرباط، هشام الشامخ، الذي يوضح أن “عملية التحرر تجري حاليا في المغرب. المغاربة يريدون الخروج من العلاقة مع فرنسا التي تتسم ببعض الأبوية ومحاولة الاستمرار في الهيمنة”. كل ذلك يدور بشكل رئيسي حول المعاملة التي تلقاها صورة الملك في الصحافة الفرنسية، والتي يعتبرها العديد من المغاربة غير لائقة، بل وجارحة. “هناك سوء فهم في فرنسا حول الروابط بين المغاربة والملك. الملكية هي مؤسسة يُنظر إليها هنا على أنها ملاذ، وكيان يوفر الأمن. إن الإساءة إلى الملك هي بمثابة الإساءة إلى كل المغاربة”، تنقل “لوموند” نقلا عن توفيق بودشيش، الاقتصادي والدبلوماسي.
“إن المكانة المقدسة للملك، أمير المؤمنين، تثير في المغرب حساسية مختلفة تماما، وهي من أعراض الفجوة النفسية والعاطفية بين البلدين”، تذكر الصحيفة الباريسية التي ترى أن قضية بيغاسوس لم تسهل الأمور بين الملك محمد السادس والرئيس إيمانويل ماكرون.
“عندما لم نفهم، في باريس، الموقف المغربي، حصلنا على تفسيرات من إسرائيل أكثر مما حصلنا عليها من المغرب، كما يستنكر مسؤول فرنسي. إنها تشبه إلى حد ما القدح القبيح، كما يشير رجل أعمال مغربي، الذي أضاف: (نحن (المغاربة) متهمون، وتتساءلون: كيف تجرأتم، وأنتم دولة ناشئة، على التجسس على دولة قوية؟)، في حين أن الممارسة في الاتجاه الآخر شائعة”، هكذا تختتم صحيفة “لوموند” ساخرة.